.
في 25 يونيو 1998، على الطريق المؤدية إلى قرية تاوريرت ن موسى قرب تيزي وزو، كانت اللحظة الأخيرة في حياة المناضل الأمازيغي الكبير “معتوب لوناس الذي اغتالته أياد قذرة لا تؤمن بالتعدد والاختلاف، بل بالفكر الأحادي والمطلق والتعصب الديني. في هذا اليوم فقدت الحركة الأمازيغية أحد أبرز مناضليها الأوفياء للقضية الأمازيغية، اتخذ من الأغنية الملتزمة والشعر الهادف أداة للدفاع عن الهوية والثقافة الأمازيغية، ناضل من أجلها لأنه لا يملك شيئا غيرها، موته أسعد الكثير من الاسلامويين والنظام العسكري الجزائري، لأنه كان الشرارة التي تحرك كل مدافع عن القضية الأمازيغية، تأثر كثيرا بالربيع الأمازيغي ـ “تافسوت إيمازيغن” ـ، غنى في هذه المناسبة ضد الإرهاب وعن اغتيال المثقفين من لدن المتطرفين الدينيين وعن قمع السلطة العسكرية للأصوات الحرة المدافعة عن جذورها وقضيتها المشروعة، تمرد لوناس على الواقع الذي يحرم فيه الإنسان من التعبير عن آلامه وعن لغته وثقافته، وكانت ثقافة القمع هي السائدة، وكان كتابه «المتمرد» وثيقة تاريخية حية تشهد على تحولات الجزائر المعاصرة بآلامها وآمالها وطموحاتها ومفارقاتها أيضا، كتب وغنى لوناس من أجل الحرية وواجه بحزم كبير قوى الشر الدينية والدنيوية، الظاهرة والخفية، أمثاله لا يتعاملون مع الهدن الممنوحة من جماعات مزهوة أقل ما يمكن القول عنها إنها متطرفة وعنصرية، كتب سيرته الذاتية «المتمرد» ليقول إنه تمرد ضد الفكر المتحجر والتعصب الديني، والقمع اللغوي والثقافي، ناضل من أجل قضية مشروعة تستمد مشروعيتها من حقائق التاريخ والجغرافية واللغة والإنسان، تمرد في أماكن يقال عنها زورا إنها مراكز الانضباط والنزاهة وخدمة “الوطن” لأنها أصلا نشأت لقمع الأصوات الحرة المعبرة عن ذاتها وكينونتها. وكانت رصاصات الغدر في أكتوبر 98، شاهدة على تمرد لوناس على اللامعقول والقمع العسكري والتطرف الديني، حقا كانت الفاتورة التي دفعها لوناس غالية جراء إيمانه الراسخ بالقضية الأمازيغية، وهي مسألة حياة أو موت عنده. وعلمنا دروس الإقدام والحرص على الشرف والسير قدما حتى تحقيق كل المطالب المشروعة، وكما كان يقول دائما “إني أفضل أن أموت واقفا على قدمي ومدافعا عن هويتي أفضل من أن أموت طريح الفراش”.
1 ـ معتوب الطفل المشاكس:
منذ السنوات الأولى من طفولته، كان يقدم على أعمال تدل على شجاعته، هذه الفترة كانت الجزائر في عز الحرب التي تخوضها من أجل الاستقلال، ولا حديث آنذاك إلا عن المقاومة والمستعمر الفرنسي، كان معتوب وحيد الأبوين لأن شقيقته لم تخرج إلى الوجود إلا بعد استقلال الجزائر بسنة. وهذا الوضع جعل منه طفلا مشاكسا. كان “الرجل” الوحيد في عالم لا وجود فيه إلا للنساء مما جعل منه طفلا مدللا. كان دوما يرغب في مواجهة المستعمر رغم صغر سنه، ذات يوم غادر بمعية أطفال القرية حدود تاوريرت ن موسى وصادف في الطريق كوخين يوضع فيهما التبن ولجأ إليه من أجل تدخين أعقاب السجائر التي كان يجمعها في الطريق، لم ينتبه معتوب حتى اشتعلت النيران وأتت على الكوخ وما فيه، وهددت القرية كلها بالاحتراق، أحس بالخوف وفي الوقت نفسه انتابه شعور جارف بالفخر، حتى ظن الفرنسيون أن الأمر يتعلق باستفزاز مقصود من طرف السكان أو عملية لرجال المقاومة. وتجمع كل ساكنة القرية للاستفسار عما حدث، آنذاك أدرك أن ما فعله كان حماقة كبيرة، قدم أصحاب الكوخين إلى أم معتوب وطلبوا تسليم “المتهم” للمحاكمة. وبمجرد أن شاهدوه على ظهر أمه، تملكهم ضحك هستيري، لأنهم ظنوا أن الجاني ليس طفلا في سنه الخامسة، كان طفلا متمردا منذ صغره وظل كذلك إلى أن اغتالته أيادي الغدر، ترعرع في جبال دجردجرة وسط عائلة متواضعة في غياب أبيه المقيم بفرنسا. وكانت والدته تقوم بدور الأب والأم في نفس الوقت و تربية المتمرد الصغير، لم تكن متعلمة لكنها متخصصة في رواية الأحاكي وعلى غرار الكثير من أقرانه كانت الحقول واللعب بالقرية بديلا عن قاعة الدرس. كان يحس بالملل والضجر داخلها كسجين يفقد من خلاله حريته المطلقة. تعود على التسكع عوض الذهاب إلى المدرسة، يقضي معظم أوقاته في نصب المصائد للأرانب بدل الاهتمام بالدروس. تأثر كثيرا بالروايات التاريخية التي كان يسمعها عن الملوك الأمازيغ، الشيء الذي أدى إلى ولادة وعيه بالهوية الأمازيغية، بل وهوية جيل كامل. ودأب على القيام بألعاب حربية مقلدا رجال المقاومة ورغبته في التواجد ضمن صفوف المقاومين ويتفاعل مع كل صغيرة وكبيرة تأتي من ساحة القتال، بل ويقدم على مغامرات، شجاعته الكبيرة تدفعه إلى القيام بها حيث يقول في الفصل الأول من كتابه “المتمرد”: »في يوم ما، قدم عندنا جندي فرنسي ليبتاع منا أرنبا وبعد ذلك بأيام شاهدنا الأرنب نفسه لدى ذلك الجندي وهو لا زال على قيد الحياة، ساعدتني أمي لتسلق حائط الثكنة من أجل استعادة الأرنب، أسبوع بعد ذلك، أعادت أمي الأرنب نفسه لذلك الجندي، وبمثل هذا الفعل كنا نعتقد أننا شمتنا الفرنسيين، ربحنا مرتين ضعف مبلغ مالي دون ضبطنا ونحن متلبسون. في الأيام الموالية كنت أترصد المعسكر لكن لا أثر لأرنب فيه«.
ما بين (1963-1964) كان بمثابة هزة ولدت فيه رفضا لكل ما هو عربي، منذ هذا الوقت تنامى التاريخ والوعي بالهوية الأمازيغية لدى معتوب ورفضه لسياسة التعريب التي نهجها النظام العسكري التي كانت تهدف إلى محو الإرث التاريخي الأمازيغي. يقول معتوب في نفس الفصل: «الأمازيغية هي لغتي الأم، تعلمت بها الكلمات الأولى وألفت بها نصوصي الغنائية لكن هي أيضا لغة غير معترف بها في الجزائر ولا تدرس وكلما نطقت بها تصورت نفسي كما لو أنني أقاوم». كانت طفولته مليئة بالمغامرات، من التسكع إلى السرقة، إلى السجن لأنه تجرأ على طلب السيجارة من القاضي، جرأته هذه ساهمت هي الأخرى على تمرده على الواقع المعاش آنذاك.
2 ـ معتوب وتجربة الإهانة في الخدمة العسكرية:
صادف التحاقه بالجندية، انفجار قضية أمغالا، ووجدت الجزائر نفسها مرة أخرى في مواجهة المغرب، أدى إلى تشابك القوات الجزائرية والمغربية، وعين في مصلحة المعدات العسكرية، وهو ما أتاح له معاينة كل أشكال الشطط في الثكنات العسكرية. تولى مهمة الحراسة ورأى خلالها آلاف المغاربة يغادرون الجزائر بعد قرار بومدين بطردهم، يقول معتوب في الفصل الثاني: «تجمعنا جذور مشتركة بهم، كانوا من أمازيغي الجنوب المغربي بالأطلس الكبير، في أعماق جبال القبائل، اكتشفت مع بني جلدتي أن ثمة مغاربة نتحدث وإياهم لغة واحدة». أحس معتوب وهو يرى المغاربة يهاجرون الجزائر بقرار سياسي ووصمة عار كبيرة في جبين الجزائر، وهم الذين لا يحملون معهم رزما صنعوها للتو بأيدهم وعلى عجل، أدرك أن الجزائر والمغرب ستدخل حربا عبثية ولو أرسل إلى جبهة القتال فلن يكون قادرا على إطلاق ولو نصف رصاصة. فعل المستحيل للتخلص من جحيم الجندية، كتب رسالة ادعى بأن أمه بعثته إليه تخبره بعودة والده صحبة فرنسية للزواج منها ولأنه من منطقة جبلية فيها مهاجرون كثر فقد كانت هذا الكذب هو المخرج الوحيد، ومن خلالها منحه قائد الفرقة رخصة خاصة في ثلاثة أيام حولها معتوب إلى عشرة أيام بالرغم من العقوبة القاسية التي تنتظره عند عودته حيث حلق شعره ووضعه في حفرة لمدة خمسة عشر يوما.
لم يحتفظ معتوب بأية ذكرى جميلة داخل الجندية، من العقوبات إلى الإهانات، ومن الإهانات إلى العقوبات ولد ذلك بداخله حقدا عظيما كان يشعر بالمهانة وعرضة للعدوان والإقصاء، بدأ يحس أنه يخدم نظاما عسكريا يختلف عن قناعته ورغبته.
من الخدمة العسكرية، احتفظ معتوب بمشاعر عدم الثقة إزاء السياسة وبمرارة الأيام التي قضاها هناك ولحسن الحظ كان الشعر المنفذ الوحيد للهروب من هذا الواقع المزري وللتسلية أيضا، كان جسده في الخدمة العسكرية وعقله في القبائل المناضلة ضد النظام العسكري.
3 ـ معتوب وقيثارة النضال:
كانت قيثارته الأولى من القصدير وأوتارها من خيوط الصيد، علاقته الأولى بالآلات الموسيقية كانت عبر هذه الآلة وبها كان معتوب يحيي الحفلات بتيزي وزو، إلى أن أتت الآلة الموسيقية من باريس وجعلته يغرق في الأحلام، مختلفة تماما عن الأولى، كان يمضي ساعات وهو يتأملها، حلمه هذا سرعان ما تبخر لأنه كان مدمنا على لعب الورق وضاعت قيثارته أثناء مقامرة أجبر على التنازل عليه لابن عمه، لم يكن أمام معتوب سوى اقتناء آلة جديدة لكنها لن تكون مثل التي أضاعها في المقامرة وبدأ في إحياء الحفلات وجعل منها أداة إيصال رسالته وغنى عن الأوضاع الاجتماعية والثقافية والاقتصادية التي كانت تعرفها القبائل خاصة والجزائر عامة، غنى بفرنسا وبقاعة الأولمبياد سنة 1988 بموازاة مع تسارع وتيرة المطالبة بالحقوق الأمازيغية وأصبحت الحركة الثقافية الأمازيغية تحتل الواجهة بالجزائر، أسابيع بعد ذلك وبالضبط 20 أبريل 1980، تعرض الربيع الأمازيغي الذي نظمته الحركة الثقافية الأمازيغية للقمع العنيف من طرف النظام الجزائري وهو ما تفاعل معه معتوب لوناس وكانت الشرارة التي أطلقها عبر غنائه ضد التطرف والقمع والعنصرية، وكانت قيثارته أداة لذلك.
4 ـ الربيع الأمازيغي: "وظلم ذوي القربى أشد مضاضة..."
في 1980، كان مقررا أن يلقي مولود معمري محاضرة حول "الشعر القبائلي القديم". هذا الأخير الذي ناضل من أجل بقاء كرسي الأمازيغية بالجامعة وكان قدوة لجيل كامل، بذل مجهودا كبيرا في سبيل الثقافة الأمازيغية وتعرضت دروسه لتهديدات متكررة، هذه المحاضرة قوبلت بالمنع والنظام القمعي رأى فيها إخلالا بالنظام العام، كانت بداية الاحتجاج، تجمع الطلبة حول جامعة تيزي وزو ودعوا إلى مظاهرة في اليوم الموالي وهي التظاهرة الأولى التي نظمتها الحركة الثقافية الأمازيغية بالجزائر، انطلقت شرارة الاحتجاج وشملت عموم القبائل وفي يوم أبريل حصل إضراب عام شل المنطقة برمتها وقامت انتفاضة شعبية ضد النظام العسكري، بعد أربعة أيام من انطلاق الانتفاضة أعطيت الأوامر ليلة 19 و 20 أبريل للجيش للهجوم على المنتفضين وكانت الحصيلة مئات الجرحى والاعتقالات، معتوب تابع هذه الأحداث من بعيد لأنها صادفت وجوده بفرنسا، كانت الصحف هي الملاذ الوحيد لمعرفة الأخبار الواردة من القبائل، غنى أمام الجمهور وعمل على ارتداء بذلة عسكرية تضامنا مع إخوانه في القبائل ونظم رفقة أصدقائه بفرنسا وقفة أمام سفارة الجزائر بباريس قوبلت بالقمع هي الأخرى، لأن تلك كانت علاقة فرنسا بالجزائر جد متينة. خرجت القبائل من هذه الأحداث وهي تنزف دما وأصبحت هذه الانتفاضة تخلد كل سنة وغنى معتوب خلالها، ضد الإرهاب وعن اغتيال المثقفين من لدن المتطرفين الدينيين وعن القائمة السوداء التي تطول يوما بعد يوم، وغنى ضد تماطل المسؤولين ومحاربة العنف الأعمى.
يقول معتوب في الفصل الرابع من سيرته الذاتية "المتمرد" «إننا مهددون في وجودنا وحياتنا وكرامتنا وحريتنا، نكون مقابل الدفاع عن هذه الأشياء، نريد أن نعيش ونفكر ونكتب ونغني». أشعاره كانت عبارة عن عدم الانضباط والإزعاج، تحدث عن كل شيء من الحياة والحب والموت، انتقد السلطة القمعية التي سلبت منه كرامته واحتقرت هويته وثقافته ومنع صوته الحر إلى الوصول إلى الذين يستحقون سماعه.
راهن معتوب لوناس على إعادة الاعتبار لشخصيته في أحضان بلده، انتظر سنة 1988، السنة التي أصيب فيها بخمس رصاصات في شهر أكتوبر ليدرك الناس أنهم ذهبوا ضحية حملة تضليل ضخمة قامت بها السلطة القمعية لتشويه سمعته.
5 ـ غضب أكتوبر 88 ورصاصات الغدر:
بدأت الأحداث ترتفع في الجزائر والمواد الغذائية الأساسية تشهد زيادات صاروخية في الأثمان، إنها أزمة اقتصادية بامتياز ارتفعت معها حركة الاحتجاج وتحولت إلى مواجهات مع قوى "الأمن" أسفرت عن قتلى وجرحى، (أكتوبر 88)، بلغت التظاهرات أوجها والقبائل تعودت على الانتفاضات الشعبية وأعلن حالة الطوارئ في هذه المنطقة، بدأ معتوب في توزيع المناشير إيذانا بانطلاق الثورة وبدأت الرصاصات الواشمة من الانطلاق من مسدس النظام، واحدة تلوى الأخرى، دخل من خلالها معتوب في غيبوبة وخرج من المستشفى وهو يشكو من إعاقة جسدية. وبعد أسابيع من العلاجات المكثفة، أيقن الأطباء ضرورة نقله إلى فرنسا للعلاج إلا أن السلطة ترفض ذلك، خوفا من فضحها في وسائل الإعلام عما يجري في البلاد، ستة أشهر وهو في حالة خطيرة أقرب منها إلى الموت إلى أن نقل إلى فرنسا تحت ضغط الجماهير التي ساندته وتضامنت معه منذ الرصاصة الأولى التي اخترقت جسده. يتذكر معتوب كل اللحظات التي مر خلالها أثناء تواجده داخل المستشفى بفرنسا ومن "سخريات القدر"، وهي عنوان الشريط الذي لحنه في فرنسا أن تكون محاولة اغتياله سببا في تغيير مجرى حياته وأدرك خصومه أنهم تسرعوا قليلا في دفن ودق المسمار الأخير في نعشه. فإذا فشلت الرصاصات الخمس من النيل منه فإن العكازين لن يمنعاه من المشي قدما، من أجل الاستمرار في الكفاح من أجل الهوية الأمازيغية، واصل النضال وطالب بالحقوق اللغوية والثقافية الأمازيغيتين وكان ناطقا بضحايا النظام والجماهير الغاضبة، يقول معتوب في الفصل الخامس "إن الحركة الثقافية الأمازيغة بصفتها حركة ضرورية جدا ولا زالت كذلك وستكون أكثر ضرورة في المستقبل لأنها قوام وجود القبائليين وبمختلف مشاربهم السياسية، إنها رمز لهويتنا".
جراحه لم تشف بعد، نقل إلى فرنسا للعلاج من جديد، غادر وهو يحمل كيسا طبيا، انفجر وهو يتابع مباراة في كرة القدم في القبائل، عذاب حقيقي عاشه في تلك اللحظة، الأيام صعبة والليالي مظلمة رغم الداء والأعداء فقد غنى معتوب من أجل الحرية والعدالة والمساواة وضد القمع والتطرف الديني الأعمى.
6 ـ يوميات في أدغال "الإسلامويين":
كان معتوب يعلم بأنهم يترصدونه، بلغ إلى علمه عن طريق أصدقائه وتوصل برسائل مجهولة تحمل في طياتها عبارات شديدة اللهجة، قبل اختطافه بثلاثة أشهر علقت مناشير على شوارع تيزو وزو كتب اسمه وصار واحدا من المسجلين في القائمة السوداء للمتطرفين "الإسلاموين".
وفي 25 شتنبر 1994، وهو عائد من الجزائر العاصمة، الأمطار غزيرة لا تتوقف عن السقوط، تعب معتوب واستراح في إحدى المقاهي في الطريق، وإذا به تدخل العصابة التي تنتمي إلى "الجماعة الإسلامية المسلحة" واقتادته إلى مكان مجهول لم يسمع في ذلك المكان إلا لنباح الكلاب وهو ما يعني أنه قريب من إحدى البلدات وهو معسكر الجبهة المتطرفة. استقبله أحد أصدقاء الماضي لكنه بعقلية مختلفة، عقلية التطرف والأحادية، تساءل معتوب ما الذي يجعل الإنسان ينتقل من حالة التوازن إلى وضع من التعصب يمسخه من كائن عادي إلى آلة مستعدة للقتل؟ عانى الكثير جراء اختطافه، يتذكر معتوب كل اللحظات التي عاشها داخل المعسكر وبالمقابل كانت القبائل تغلي على إيقاع الاحتجاجات والتظاهرات وتنادي كلها بإطلاق سراح معتوب، يقول وهو يتحدث عن يومياته في أدغال الإسلامويين: "يعتقدون أن كل من قتل منهم في الجهاد ضد "الكفار" تفتح أبواب الجنة في وجهه وفي وجه سبعين من عائلته. وأهله، المصير نفسه ينتظر التائه، الجنة مآله مهما كان عدد ذنوبه، بهذه الأفكار البسيطة والساذجة، استقطب الإسلاميون بسهولة في أوساطهم الجانحين والمجرمين".
في أكتوبر 1994 تم إطلاق سراحه حاملا معه رسالة من المتطرفين بأنهم "ليسوا قتلة وكل ما يريدونه قيام الجمهورية الإسلامية ويطلبون من سكان القبائل الكف عن الوقوف في وجههم" وبدأت الأصوات تتعالى معبرة عن فرحتها لإطلاق سراحه وانتشر الخبر كالنار في الهشيم في القبائل برمتها.
أفرجوا عنه لأنهم كانوا مضطرين وخائفين من انتفاضة الجماهير الشعبية، خافوا على ذويهم، يقول معتوب "اليوم أشعر بمسؤوليات خاصة إزاءهم أدين لهم بحياتي واسمي وشعبيتي، لا يحق لي أن أخيب ظنهم ولا أن أخدعهم، ستكون أغنياتي وغنائي ومعركتي أشد قوة وأصلب عودا عما كانوا عليه فيما مضى".
7 ـ وبعـــــــد...
هل أنا مختلف اليوم؟ سؤال طرح عليه بعد خروجه من ذلك الجحيم، تغير سلوكه وصار عصبيا أكبر، يعيش حالات من القلق غير قابل للمراقبة، مغادرته إلى فرنسا تعني الحرمان من القاعدة التي يقف عليها، عاش حالة من العصبية الشديدة والكوابيس المزعجة، وتبقى أحسن العلاجات عنده هي كتابة هذا "المتمرد" وأعماله الموسيقية التي تعبر عن أحاسيسه ومعاناته وهويته، تسلم معتوب في دجنبر 1994، جائزة أسعدته كثيرا، إنها جائزة الذاكرة التي تسلم لشخصية طبعت بالالتزام والكفاح، يقف معتوب عند أشعار "جان عميروش" متأثرا حين يقول:
- قد نجوع الأجساد
- قد نهزم الإرادات
- وندك الكرامة بمنجل الاحتقار
- لكن لن نستطيع
- تجفيف الينابيع الأعمق
- حيث الروح اليتيم
- وعبر عروق صغيرة لا ترى
- يرضع من حليب الحرية.
كان الموت، الشعور الحاضر والغائب في نفس الوقت ومعرفته أكيدة أنه تحت نيران حكم موقوف التنفيذ، عادت إلى ذاكرته لحظات الماضي بآمالها وآلامها. يقول معتوب في ختام سيرته الذاتية "المتمرد": «أريد أن أعيش وأغني بكامل الحرية، الجزائر الإسلامية لن يكون لها وجود إذا اقتضى الحال أن أهب حياتي في هذا الكفاح فلن أتردد في ذلك، عجزوا عن كسر شوكتي طيلة 15 يوما من الاعتقال والآن سأؤكد لهم، بل وسنؤكد لهم أننا أقوى منهم، لا أحد بمقدوره الوقوف في وجهنا، معركتنا عادلة ونبيلة، أقسم بذلك».
نفذ إذن الحكم الذي كان موقوف التنفيذ في السابق من طرف الأيادي القذرة، أيادي التطرف والعنصرية، ذهب ضحية للعنف الأعمى الذي أنتجه النظام القمعي، رحل وذكرياته بقيت راسخة في أذهان المحبين للحرية، ناضل من أجل قضية عادلة وعليها استشهد، وكانت رصاصات التطرف والغدر في 25 يونيو 1998 قد وضعت نهاية لهذا الرمز التحرري الكبير الذي تمرد على كل شيء، لتنطفئ إحدى شرارات النضال في أرض ثمازغا لتعلن اشتعال شرارات أقوى لمواصلة النضال حتى تحقيق كافة المطالب التي تنادي بها الحركة الثقافية الأمازيغية، وكانت سيرته الذاتية "المتمرد" وثيقة تاريخية حية شاهدة على حياة المناضل الكبير معتوب لوناس بكل آلامها وآمالها.