التعليم الليلي
للمسجد ـ تِيمْزْكِيدَا ـ في حياة الأمازيغيين أهمية قصوى يؤكدها اعتباره ''النادي العام لأهل القرية ولا يختلف عنه إلا من لا خير فيه، ولأستاذ المسجد احترام، وهو الإمام، والمؤذن ـ غالبا ـ وقارئ الحزب''، ومعلم الدروس المسائية لعموم أطفال القرية، الذين وجدوا في ''التربية الإسلامية'' بالأمازيغية عادات تحفزهم للتلهف على حضور دروس المسجد الليلية، المختلفة عن الدروس النهارية التي تعلم الملازمين دراسة القراءة والكتابة باللغة العربية وحفظ القرآن، فالليل يخصصونه للمراجعة عندما يتفرغ أستاذهم للدراسة الليلية التي تهتم كل مساء بتعليم الأطفال ذكورا وإناثا، وبالرعاة والحرفيين الذين لا وقت لهم للدراسة نهارا. وبهذه الدروس يتعلمون قواعد الإسلام، وأحيانا قد يضطر بعض الأساتذة لتغريم المتخلفين''.
وللأطفال عادات يمارسونها تشوقهم إلى هذه الدروس الخاصة، كاعتيادهم الانطلاق بعد صلاة المغرب في عموم أزقة القرية مرددين إنشادات جماعية بأصوات طفولية موحية تحث الصغار على الالتحاق بالمسجد لتلقي الدروس الدينية، التي لا يتخلف عنها ذكورهم وإناثهم ما لم يبلغوا سن الاحتلام، وعادة ما يلتقي الجميع في الطريق المؤدي إلى المسجد فيكونون صفا واحدا حاملين الحطب ـ ليستعمل في الإنارة وتدفئة ماء الوضوء ـ وهم يرددون مرددات خاصة بتلك المسيرة. وقد ثمن ''ديكو دي طوريس'' هذه الدروس في إحدى ليالي سنة 1550م، التي شاهد فيها كيف يعلم بها الأمازيغيون أولادهم، وبعدما وصفها بدت له معقولة جدا ''إذ بعد أن يرعى الأطفال قطعانهم طوال النهار يجتمعون عند المساء في منزل معلم، وعلى ضوء نار عظيمة يوقدونها بالحطب الذي حملوه معهم يستظهرون دروسهم''.
عرس القرآن
هناك عادات هيأها الأمازيغيون لتنتقل عبرها الأفكار الإسلامية من العربية إلى الأمازيغية بطرق غاية في التشويق والإيحاء. ومن أبرز تلك العادات ''سْلُوكْتْ'' التي تدعم الحضور الإسلامي في البيئة السوسية، فأثناءها يقرأ القرآن جماعيا، وتنشد قصيدتا ''البردة'' و''الهمزية'' للإمام البصيري، وكل ذلك باللغة العربية، وقد يتم فيها الشرح بالأمازيغية، لأن كل الفقهاء الأمازيغيين ''يفسرون معاني القرآن على قدر الطاقة''.
إن ''سّلُوكْتْ'' احتفال خصصه الأمازيغيون لـ''الطّلبة'' كي يحضروا في جميع المناسبات، ويؤكدوا على حضور الإسلام في كل الممارسات، ولحضور مناسباتها يكون ''الطلبة'' قد ''تهيأوا واستعدوا وتزينوا بأحسن ما عندهم''، ويستقبل مجيئهم بغاية الفرح والسرور، ويجلسون في أحسن مكان وعلى أجمل فراش، وتقدم إليهم أحسن أنواع الأطعمة... ويعبرون عن فرحتهم بحماسهم في أداء ''تاحزابت''، وإنشاد شعر يمدح الكرماء في ما يسمونه ''تّرجيز''. ويعتمد حفل ''سْلوكْتْ'' على ثلاث دعائم: ''تاحزّابت'' و''البوصيري'' و''تّرجيز''، ولكل منها دور في التفاعل القوي بين الأمازيغيين والمتن الإسلامي، وسنوضح معالم ذلك بإيجاز:
أ ـ ''تاحزّابت'':
''تاحزّابت'' نسبة إلى حزب القرآن الكريم، والمقصود بها نوع من أداء قراءة القرآن بـ''...رفع الصوت بأقصى ما في حلوق الطلبة من قوة وتمطيط في القرآن جماعة في منتزهاتهم (أدوال)، أو في المواسم التي يتلاقون فيها''. ولا نراها بعيدة عن هدف تحريك مشاعر الأمازيغيين بطريقة إنشادية لمتن لا يعرفون معانيه، ولكن طريقة إنشاده تخلق بجلالها تواصلا رائعا، ويتجلى تأثيرها البهيج على ملامح القراء الذين يؤدونها بحماس تجسده حركاتهم الموقعة بإيقاع طريقة القراءة، ويعبر عنه اندماجهم المطلق في الأداء، وكذلك ترحيب الناس وتشجيعهم لجودة القراءة. ولعل هذه الاحتفالية هي سر المحافظة عليها رغم ما واجههم من انتقادات، ''وقد قاومهم كبار العلماء ولكن لم يفيدوا فيه شيئا''، وقد اهتم الشعر الأمازيغي التعليمي بالمتن القرآني، فنظمت أبيات ومقاطع بعضها خاص بالرسم القرآني، وبعضها بالتجويد... وكثيرا ما تنشد بالأمازيغية خلال حفل ''سلوكت'' القرآني.
ب ـ ''البردة'' و''الهمزية'' :
لا وجود لحفل ''سلوكت'' بدون إنشاد رائعتي البوصيري: ''البردة'' و''الهمزية'' وإذا كانت ''تاحزابت'' قناة للقرآن في مجال التفاعل بين الإسلام والأمازيغيين فإن ''البردة'' و''الهمزية'' قناتان للمديح النبوي من تأليف الإمام البوصيري (ت 696 هـ ـ 1296 م)، اكتسبتا نوعا من القدسية التي يوحي بها تلازمهما لـ''تاحزّابت'' القرآن، ولأن ''الاعتقاد في قدرات القرآن امتد إلى كتب دينية مثل صحيح البخاري ودلائل الخيرات ـ للجزولي ـ اللذين يحظيان في شمال إفريقيا باحترام بالغ، إلا أن أهم مثال في هذا المجال هو: البردة... التي ترجمت إلى الأمازيغية... وتكتب بها التمائم، وتنشد عند الدفن وتكتب على جدران المساجد''، وتعتبر مع الهمزية ملازمتين لـ''سلوكت'' القرآنية أكثر من غيرهما من جل ما ألف في المجال الإسلامي، ثم إن إنشادهما في نصهما العربي صار من أروع وأعذب الألحان التي يتأثر بها المستمعون في احتفالهم بالطلبة.
ج ـ ''تّرجيز'':
الـ''تّرجـيز'' صيـغة أمازيغية لكلمة الترجيز في العربية، والمقصود بها في حفلة ''سلوكت'' إنشاد الأشعار العربية بطريقة خاصة، إذ يبدؤها فرد واحد منهم ثم يرددها بعـده الآخرون، ويتدخل آخر مضيفا أو مجيبا سابقه. ويمثل هذا الترجيز قمة التفاعـل بين المستمعين الأمازيغيين الذين يجهلون العربية، وبين ''الطلبة'' الذين قد يدركون بعض معاني ما ينشدون، والعلاقة الجامعة للتأثر بين المستمعين والقراء هي طريقة الإنشاد مما له علاقة واضحة عند العارفين بطريقة إنشاد حوار ''العقول الشعرية'' خلال العرض الشعري في أحواش، ومن أجمل ما يوحي بوجود تلك العلاقة، ذلك الشعور الغامر الذي يعكس فرحة التأثر بمقروء ''سلوكت'' نهارا، وفرحة التمتع بالشعر المنشد في ''أحواش'' ليلا، تلك العادة التي تواكب قراءة القرآن في ''تاحزّابت'' وإنشاد الأشعار العربية في الاحتفال بـ''الطلبة'' في ''المواسم'' الكبرى حيث يلتقي عشرات الحفاظ في مجموعات يخصص لها مكان معين في ''الموسم''. وتتناوب المجموعات على قراءة ربع حزب من القرآن لكل جماعة على حدة، فإذا وصل دور مجموعة منهم ''جاء جميع الحاضرين، ووقفوا عليهم يحصون عليهم الأنفاس... فإذا مالوا ولو خطأ في وقف أو إشباع أو قصر أو توسط أو غير ذلك من أنواع التجويد صفق لهم جميع الحاضرين من الطلبة تشهيرا للسامعين بعظم الزلة، وربما سمع التصفيق العوام المشتغلون بأنواع الاتجار خارج المدرسة فيصفقون هم أيضا لما رسخ في أذهانهم من فظاعة ذلك''.
إننا نسمع كثيرا من يقول عن ''سلوكت'' إنها ''تامغرا ن لقران''، أي عرس القرآن، لأنها احتفال له مقوماته الخاصة... إننا فعلا في عرس لا يهتم بمباشرة تبليغ خطاب ديني بالأمازيغية، ولكن جلاله وجماله والاعتقاد في حصول الثواب به هو الذي جعلهم يقبلون عليه بكل حواسهم مخصصين له النهار كله كما يخصص قسط من الليل لاحتفال ''أحواش''.
يجب ألا نـــــــرى الاحتـــفال بالقرآن في عرســـه ''تامغرا ن لقران'' مناقضــــــا لاحتفال الرمز الشعـــــــــــري فــــي ''عرســـــــه'': ''أحــــــــــواش'' لأن العــــــــادات الأمازيغيـــــة تعتبرهــــــما غيـــــــر متناقضين، بل إن أحدهما يكمل الآخر بأداء وظائف محددة، ذلك أن ''سلوكت'' احتفال بكلام الله، وسنة رسولــــه صلـى الله عليه وسلم وبحُفّاظهما، أما ''أحواش'' فاحتفال بفنية كلام العباد، وبنبل أعمالهم المعبــــــر عنهــــــا بلســان الشعـــــــــــراء ـ ''ءيماريــرن'' و''رّوايــــــــس'' ـ إن ''سلوـــكت'' و''أحواش'' احتفــــالان لا تــــــتم بهجة مناسبة أمازيغية بدونهما، بل إن ''من عوائد المغرب... وخصوصا سوسنا الأقصى، أن الأعراس والختمات القرآنية في الأفراح والاحتفالات عندهم سواء''.
كتاب ''رموز الشعر الأمازيغي وتأثرها بالإسلام'' ـ بتصرف