كان من النتائج غير المتوقعة للفتوحات الإسلامية في شمال أفريقيا تعرب أهلها جزئيا، وكان مسار التعريب بطيئا، إذ تواصل حتى القرن العشرين ولم يحد منه سوى بروز المطلب الأمازيغي إلى الوجود(1).
ومقارنة بمسار التعريب كانت أسلمة الأمازيغ أسرع نسبيا، فبعد مرور قرن ونصف على أول حملة عسكرية عربية تحت إمرة عقبة بن نافع (665م) أصبح الإسلام الدين الغالب في المناطق التي دأب الفاتحون الأجانب على الاستيلاء عليها(2).
ويفسر ألان مورغ البطء النسبي لاعتناق الشمال الأفريقي الإسلام مقارنة بالعراق والشام وفارس بأن الفاتحين العرب لم يجعلوا من أسلمة الأمازيغ أولوية أولوياتهم، ويردّ موقفهم هذا إلى خوفهم من نضوب عوائد الجباية في المنطقة إذ كان سيترتب عن اعتناق الأمازيغ الإسلام إعفاؤهم من الجزية والخراج(3).
ولم تندثر المسيحية واليهودية بمجرد ولوج العرب الشمالَ الأفريقي إذ بقيتا حيتين لدى أقليات حافظت عليهما لمدة ليست بالقصيرة، لكنهما لم تعودا تلعبان أي دور في الصراع الديني الذي أخذت تدور رحاه في المنطقة بحيث اقتصر على المذاهب الإسلامية (السنة والشيعة والخوارج).
ويمكن الجزم بأن الفتوح الإسلامية كانت بداية احتضار طويل لهاتين الديانتين انتهى باختفائهما خلال القرن الـ12 الميلادي. أما دافع الأمازيغ في الانتماء إلى هذا المذهب الإسلامي أو ذاك فتمثل في الحفاظ على استقلاليتهم تجاه مركز الخلافة(4).
المذهب الخارجي والاستقلال
"
عبد الله العروي: ضعف الولاء للدولة الأموية من بين أسباب تحول المذهب الخارجي إلى مذهب نافح تحت لوائه الأمازيغ دفاعا عن استقلاليتهم
"
كان الشمال الأفريقي بعد الفتح الإسلامي دائم التأثر بالجدل الدائر بين المذاهب في المشرق، بحيث شهد نفس الصراعات بين أهل الجماعة (ثم السنة) والشيعة والخوارج.
وسرعان ما أصبحت هذه المنطقة ملجأ آمنا لكل الفرق الخارجية الهاربة من بطش الأمويين، بل وكثيرا ما كان الأمويون يحاولون التخلص من الخوارج بتسهيل لجوئهم إلى الشمال الأفريقي، فانغرس المذهب الخارجي بسرعة في أوساط الأمازيغ.
ويلاحظ المؤرخ عبد الله العروي أن ضعف الولاء للدولة الأموية وكون المذاهب السنية آنذاك لا تزال في طور التكون يفسران كلاهما "تحول المذهب الخارجي إلى مذهب نافح تحت لوائه الأمازيغ عن استقلاليتهم"، فقد أعطاهم هدا المذهب –خاصة سكان الأرياف منهم– مبررا دينيا لرفض الخضوع للحكم الأموي الوراثي الذي كانوا ينظرون إليه أساسا كحكم جل همه إثراء خزائن الخلافة بموارد الجباية(5).
وقد أسس الخوارج في الشمال الأفريقي عدة إمارات لكن لم تكن لها مطامع توسعية جامحة. ورغم عشرات الحملات العسكرية فإن شوكتهم لم تتصدع إلا تحت ضربات الشيعة الفاطمية، وبعد انتصار الفاطميين في بداية القرن 10م فر
خوارج تاهرت الإباضيون إلى
سدراتة ثم انتقلوا جنوبا نحو وادي مزاب وأسسوا مدنا محصنة ما زالوا يسكنونها.
دولة الأغالبة ونشأة المذهب المالكي
تزامنت الإمارات الخارجية في شمال أفريقيا مع الإمارة الإدريسية(6) الشيعية (789–974) بالمغرب التي لعبت دورا بارزا في نشر الإسلام في المغرب الأقصى، كما تزامنت مع الدولة الأغلبية (801–909) بتونس التي تدين بالولاء للعباسيين مع حفاظها على درجة هامة من الاستقلالية.
ويعني هذا أن الإمارات الخارجية كانت تواجه خصمين اثنين لا خصما واحدا: الأغالبة والأدارسة، ويفسر ذلك جزئيًا المصاعب التي واجهتها في توسيع رقعة نفوذها.
وقد كان للجدل الدائر في المشرق بين المعتزلة والحنفية صدى كبير في قسم الشمال الأفريقي الخاضع للحكم الأغلبي(7). ولم يكن اتباع المدن به للمذهب الحنفي (في فترة معينة) إلا صدى لما كان يحدث في بغداد ومدن العراق.
غير أن المذهب المالكي ما لبث أن تغلب على الحنفية، ويفسر الكثير من المؤرخين غلبته بسهولته واعتماده التفسير الحرفي للنصوص الدينية الذي يتلاءم حسب رأيهم مع الاحتياجات الروحية للأمازيغ الحديثي العهد بالإسلام. ويذهب الباحث الجزائري شمس الدين شيطور مذهبا بعيدا في هذا المجال، إذ يرى أن "تشدد المالكية تطابق تطابقا تاما مع الذهنية المغاربية "(
.
ويمكن القول إن انتشار المذهب المالكي بدأ من القيروان عاصمة الأغالبة بفضل القاضي سحنون صاحب
"المدونة" التي تعتبر حتى الآن أحد مراجع المالكية الأساسية في الشمال الأفريقي (9).
الشيعة الفاطمية في الشمال الأفريقي
"
اعتناق بعض الأمازيغ المذهب الشيعي جاء رغبة في الحفاظ على الاستقلال تجاه مركز الخلافة والتهرب من دفع الجباية
"
لم يعرف التاريخ الإسلامي دولة شيعية غير دولة الفاطميين التي نشأت بتونس وساندتها قبائل أمازيغية ككتامة وصنهاجة في منطقة القبائل الجزائرية ومكناسة في المغرب الأقصى.
وكما كان الأمر بالنسبة لاعتناق بعض الأمازيغ مذهب الخوارج، كان الدافع في اعتناق بعضهم الآخر المذهب الشيعي سياسيا محضا ويتلخص في الرغبة في الحفاظ على استقلاليتهم تجاه مركز الخلافة والتهرب من وطأة جبايتها عليهم(10).
وقد أحدث التشيع الفاطمي ثورة مذهبية لا يستهان بها في المغرب الإسلامي، إذ قضى على بقايا الخارجية ودخل في صراع مرير مع المالكية. لكن سرعان ما أدى تصلب الفاطميين المذهبي إلى نشوب ثورات أمازيغية كثيرة "تم تحضيرها معنويا من قبل فقهاء المالكية وساندهم في ذلك كل ضحايا الجباية الفاطمية التي اشتدت على أهالي الشمال الأفريقي"(11).
وقد دفعت هذه القلاقل الخلافة الفاطمية إلى نقل مركزها إلى المشرق وتم ذلك بعد الاستيلاء على مصر وبناء مدينة القاهرة (969). وكان لتحول عاصمة الفاطميين إلى القاهرة آثار كبيرة، فمن جهة استعاد الشمال الأفريقي استقلاليته تحت إمرة بني زيري الذين كانوا يدينون بولاء اسمي لا غير
للفاطميين. ومن جهة أخرى فتح رحيلهم الباب لعودة المالكية
إلى ربوع المنطقة.
المرابطون المالكيون والموحدون الظاهريون
حاول المرابطون أن يعطوا الإسلام المغاربي نقاوة ما كانت له بمحاولتهم نشره في أرجاء الشمال الأفريقي. فدعا مؤسس دولتهم إلى العودة إلى أصول الإسلام ومحاربة البدع، ويمكن القول إن المرابطين لعبوا دورا لا يستهان به في تنقية الإسلام المغاربي من شوائبه الوثنية والمسيحية. كما أن دعوتهم إلى المالكية كان لها بالغ الأثر في انقراض المذهب الشيعي وبقاء المذهب الخارجي مذهب أقلية محاصرة.
ومن مظاهر راديكاليتهم المذهبية الأخرى رفضهم التصوف جملة وتفصيلا كما يدل على ذلك منعهم تداول أعمال أبي حامد الغزالي في المناطق الخاضعة لهم.
أما الدولة الموحدية (1147–1269) التي قامت على أنقاض دولة المرابطين، فكان مذهبها قطيعة مع المذهب المالكي إذ كان مزيجا من تأثيرات عديدة، فكان فيه من الأشعرية إيمانه بوجوب تعريف عقلاني للألوهية، ومن الاعتزال مركزية فكرة الوحدانية التي اشتق منها اسمه، كما كان فيه من ظاهرية ابن حزم إيمانه بوجوب الأخذ بظاهر القرآن واطراح كل تفسير آخر له.
والملاحظ أن هذا لم يمنع المؤسس الروحي لدولة الموحدين من اتباع طرائق الدعوة الشيعية، كما لم يمنعه من استغلال فكرة الإمام المرشد الشيعية لنشر مذهبه إذ اتخذ هو ذاته لقب "المهدي".
وقد بدأت الإيديولوجية الدينية التومرتية في التصدع بعد تحول الدولة الموحدية إلى مملكة وراثية إذ تأقلمت مع متطلبات السلطة السياسية وتوازناتها. ويعتبر المؤرخون هذا التحول أحد أسباب الثورات الكثيرة (1147–1213) التي نشبت في المناطق التي كانت مهد دعوة ابن تومرت وحافظ فيها فكره على صبغته الأولى.
كما واجه الأمراء الموحدون بالإضافة إلى هذه الثورات قلاقل أخرى أثيرت كلها تحت راية المالكية وأشهرها تلك التي أحدثها الأمير ابن غانية المنحدر من أحد ولاة جزر البليار في عهد المرابطين. وقد تمكن ابن غانية بيسر كبير من السيطرة على المغرب الأوسط (الجزائر الحالية) بمعونة القبائل العربية الهلالية الوافدة من مصر في عهد الفاطميين
وأحيا في هذه المنطقة ذكر المالكية الذي كان قد أشرف على الزوال (12).
........................................يتبع......................................